هل كان بالإمكان أن يكون الحب بديلا, وهل كان من الممكن أيضاً أن يكون الخبز بديلاً وكفافاً أيضاً, طالما أن المدن في الروايات تتخذ منها, سبيل البحث عن المكان الحقيقي, ومقاربة المكان المتخيل, بناء على نظرية الكاتب الروائية التي يعتمدها أسلوباً له, في مسيرة البحث تلك لما هو حقيقي دوماً.. لكن في رواية « القانون» لروجيه فايان والصادرة مترجمة لعبود كاسوحة عن الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة 2011, لم يكن من مكان بديل طالما أنك أمام رواية « القانون» ستجد نفسك فيها أمام مدينة حقيقية يعيش فيها أناس من مختلف الفئات, من الأغنياء والفقراء, أناس يحبون ويتألمون أيضاً, ويسعون في حياتهم نحو الخبز والحب في آن معاً من دون أن يكون أيا منهما بديلا من الآخر.
وكأنه كان على روجيه فايان أن يتعرّض إلى إغراء الحقيقة في كل مفاصل الرواية بالقدر الذي تعرّضت فيه الرواية إلى تصديق تلك الحقيقة وكتابتها وبالقدر الذي سمح للقارئ بأن يشهد على الصدق إغراءً روائياً دوماً لا مهرب منه مع روجيه فايان.
تأتي المدينة المكان في الرواية تعبيراً عن وجود البشر بلغة جعلت من طريقة حياة أناس مدينة ساحلية في جنوب إيطاليا قانوناً يحكم السيطرة على حياتهم ذاتها من خلال خفقان قلوبهم ونبض عروقهم، كما لا يحدث إلا على شواطئ البحر المتوسط.
تعود الرواية إلى أحد الأشكال الكلاسيكية للرواية, وتبتعد عن التجريد لتأتي محكمة ضمن قالب يشبه العصر الذي كُتِبت فيه. وليأتي المضمون منسجماً مع الشكل, ما وفّر لكاتبها الابتعاد عن التجريب في الكتابة أيضاً ممتلئة الرواية بما ينتظر القارئ من مثل هذا النوع من الأدب, الأدب المليء بالحيوية والسهولة ومبتعداً عن التكلّف والتعقيد.
في رواية « القانون» قدّم روجيه فايان عملاً روائياً في أحد أشكاله كان رحلة للقارئ إلى تلك المدينة الساحلية في الجنوب الإيطالي والتي تتدرّج صعداً من مياه المرفأ القديم حتى قمة الجبل التي يتربع فوقها دير القديسة ـ ورسولا, بنت حاضرة أوريا(Uria) القديمة. ولتعرّف الرواية القارئ على مجتمع يبدأ بصيادي الأسماك وبتصعيد روائي يصل إلى لفت النظر إلى كل فئات المجتمع الأخرى من الأعيان وكبار ملاكي الأراضي وبساتين الزيتون والبرتقال والليمون.
كاتبٌ تمكن في « القانون» من عرض الحكاية بشكل راقٍ مبتعداً عن تفضيل المصلحة الشخصية لكل شخصية روائية على الأخرى.. نقرأ رواية « القانون» وندرك تماماً معنى أن تكون شخصيات الكتاب شخصيات روائية خيالية مرة وحقيقية مرة أخرى, ونعرف أنه لم يكن في نيّة الكاتب أن يحدّثنا عن حياتنا الشخصية بالقدر الذي أراد منه أن ينقل إلينا نمط حياة وقصة حياة من إيطاليا..وقد تمكّن الكاتب ببساطة من أن يقول لنا بأنه لا يكتب عن نفسه رغم أنه كان يكتب عن نفسه؛ وهل يمكن لكاتب ما في هذا العالم أن يقول لنا كل شيء عن نفسه!!, فرواية « القانون» هي بشكل أو بآخر شكل من أشكال علاقة الكاتب مع العالم ومع الواقع بتفاصيله وبكل مشكلاته المحسوسة.. فلم تكن شخصيات الرواية شخصيات استثنائية أو غريبة بالقدر الذي كانت فيه هذه الشخصيات تسعى لتكون غريبة, من دون أن تفلت من طيف الروائي والذي لا يلبث أن يظلّ ماثلاً خلفها, كما لو أنه ظل متمم لها, لأنها معجونة من نفس الطينة التي سوّتها طريقته في الكتابة. وليتخذ روجيه من مارييت بطلة لروايته, تلك الفتاة الفقيرة, ابنة السابعة عشرة, التي تتنقّل حافية, لا يستر جسدها الفتي سوى قميص واحد, لكنها تتفجّر ذكاء وشباباً وحيوية في انطلاقتها العفوية, وتحظى بعطفك واحترامك وتحوز على إعجابك, حتى ليمكنك في لحظة القراءة أن تهتف من الأعماق, مثلما فعل دون سيزار (بطل من الرواية): «مارييت, أريد لكِ الخير كله»..
نتساءل بعد قراءة الرواية : هل تأسف روجيه فايان لدفاعه عن الطبقات الاجتماعية والعدالة الاجتماعية يا ترى!!, طالما أنها رواية لم تطرح أسئلة بالقدر الذي دافعت فيه عن الأجوبة التي توصّل إليها العالم بعيداً عن الأدب والروايات.. رواية « القانون» هي القانون الذي يؤكد على ضرورة حدوث تساؤل جديد دوماً حول الوجود والواقع, لدرجة أن يكون هذا التساؤل جوهرياً متمّماً لكل القيم الفنية والجمالية التي يتبنّاها الأدب
رواية « القانون» ليست إعلانا عن نهاية شيء وليست بداية شيء.. إنها وصلٌ بين ما تمّ الإعلان عنه قبل الحدث وما تمّ التوصّل إليه.. إنك أمام مجتمع بحاله؛ فعلى ما يبدو أن روجيه فايان اختصاصي في الجغرافيا, لدرجة أن حدث الرواية كان واسعاً جداً ولم نشعر بالملل في متابعة تفاصيل الأمكنة وسيستطيع القارئ أن يجتاز ذلك الحدث الواسع حتى النهاية..
مارييت لم تعد تغني..
ما كان من مارييت إلا أن قامت، وعلى أثر نزاعات متكررة بينها وبين جوليا وماريا وإلفيرا, بطردهنّ من الدار ومعهن طونيو. فمضت إلفيرا للعمل خادمة في كالالونغا عند أحد أقرباء دون سيزار. أما العجوز جوليا وابنتها ماريا، فكانتا تعملان, حين يوافق أحد الوقافين على تشغيلهما, في تعشيب بساتين البرتقال والليمون وفي استخراج الماء لسقاية الأشجار. أما طونيو، فمضى ليحتل مكاناً خاصاً به بين صفوف العاطلين عن العمل, وقوفا بمحاذاة الجدران حول ساحة بورتو مناكوري الكبرى. فكان يصغي, وهو واقف هنالك طوال النهار, للأغاني التي تنبعث من كوى السجن المفتوحة في طابق السراي الأرضي. وغالبا ما كان قادراً على تمييز صوت جوستو, خادم منهل نادي الرياضة القديم, الذي لم يكفّ عن ملاقاة المتاعب على أيدي القاضي الجديد, لا سيما أن الضغينة في قلب بريغانتي ثابتة لا تتزحزح. وأما مارييت، فلم تعد تغني, منذ أن اشترت جهاز تلفزيون.
* روجيه فايان:
ولد في باريس عام 1907, وتألق روائياً بدءاً من 1944 فنال جائزة الحلفاء على روايته « لعبة غريبة», ظاهرة متميزة في تاريخ الأدب الفرنسي المعاصر. ومن أشهر أعماله: «الطلقات الخائبة», «شاب وحده», «قناع جميل»,«325 ألف فرنك»,. المتوفى عام 1956. فازت رواية « القانون» بجائزة غونكور لعام 1975 , وتحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه جول داسّان, من بطولة لولو بريجيدا وميلينا ميركوري وإيف مونتان ومارسيلو ماستروياني.
* عبود كاسوحة:
مواليد حمص 1938, مجاز في الأدب الفرنسي جامعة دمشق 1963, ترجم كافة الأجناس الأدبية والفكرية والفلسفية وكان أول من ترجم أعمال فيلسوف عصر الأنوار « ديدرو». قلّدته السفارة الفرنسية في دمشق في 2007 وساماً بتسميته «فارس من رتبة السعف الأكاديمية» تقديراً لجهوده في نشر الثقافة الفرنسية.